التوسل بالمخلوق .
اعلم أن التوسل هو ابتغاء الوسيلة أي السبب الموصل إلى المطلوب قال الله تعالى في سورة المائدة : ] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و ابتغوا إليه الوسيلة و جاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون [([71]) و قال تعالى في سورة الإسراء : ] أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربـهم الوسيلة أيهم أقرب و يرجون رحمته و يخافون عذابه . إن عذاب ربك كان محذورا [([72]) و المراد بالتوسل إلى الله تعالى : الأعمال الصالحة التي يتقرب بـها إلى الله تعالى كما في الحديث القدسي : (( ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ، و لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، و بصره الذي يبصر به ، و يده التي يبطش بـها ، و رجله التي يمشي بـها ، و لئن سألني لأعطينه ، و لئن استعاذني لأعيذنه )) رواه البخاري من حديث أبي هريرة .
فالإقسام على الله بالمخلوق حرام ، و هو جهل من فاعله لأن هذا المقسم إما أن يقسم بأجسام المخلوقين و ذلك جهل و ضلال و باطل ، إذ لا يتقرب إلى الله بأجسام عباده ، إذ لا علاقة لأجسامهم بما يريده الله من ذلك التوسل ، و هو الإيمان و الأعمال الصالحة .
و إما أن يتوسل إلى الله بأعمالهم فهو جهل أيضاً و ضلال ؛ لأن أعمالهم لهم ، لا يصل إليه منها شيء إلا ما أذن الله فيه كالدعاء ، و أعماله له ، لا يصل إليهم منها شيء إلا ما خصص كالدعاء و الصدقة بشرطهما إذا صنعا بقصد إيصال الخير إلى من مات موحداً لله و متبعاً للرسول r و لا يجوز الدعاء و لا الصدقة على من مات مشركاً بالله .
و يتوسل إلى الله تعالى أيضاً بأسمائه الحسنى ؛ قال تعالى في سورة الأعراف :] و لله الأسماء الحسنى فادعوه بـها و ذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون [([73]).
و أما التوسل إلى الله تعالى بالعمل المتعلق بالنبي r و أصحابه و سائر المؤمنين إذا كان مشروعاً فهو من خير الوسائل ، فمن توسل إلى الله تعالى بمحبة النبي r و طاعته و اتباعه و توقيره و الدفاع عن سنته و تعظيم ما جاء به فقد أحسن و هو جدير بالقبول ، و كذلك التوسل بمحبة المؤمنين و إعانتهم و قضاء حاجاتـهم و الإحسان إليهم و الدفاع عنهم و توقير كبيرهم و رحمة صغيرهم فذلك من أفضل الأعمال عند الله و في تلك الحال يكون الإنسان متوسلاً إلى الله بعمله ، و قد علمنا النبي r أن نتوسل إليه بأعمالنا كما في حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة فتوسل كل واحد منهم إلى الله فاستجاب الله دعاءهم و لم يقل لنا أقسموا على الله بنبي أو ملك أو صالح .
قال العلامة المحقق بشير السهسواني في كتابه (( صيانة الإنسان )) بعد ما ذكر أنواع التوسل المشروعة ص 201 ، و قد أ شرت إلى بعضها فيما سبق ( و السابع أن يقول : اللهم أسألك بحق فلان عبدك أو بجاهه أو حرمته أو نحو ذلك ، فعن العز بن عبد السلام و من تبعه عدم الجواز إلا بالنبي r ، و عند الحنابلة في أصح القولين أنه مكروه كراهة تحريم ، و نقل القدوري و غيره من الحنفية عن أبي يوسف أنه قال : قال أبو حنيفة : لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به .
و في جميع متونـهم أن قول الداعي المتوسل بحق الأنبياء و الأولياء و بحق البيت و المشعر الحرام مكروه كراهة تحريم ، و هو كالحرام في العقوبة بالنار عند محمد . و عللوا ذلك كلهم بقولهم : إنه لا حق لمخلوق على الخالق ))
ثم قال في صفحة 205 : (( قال ابن بلدجي في شرح المختار : و يكره أن يدعو الله إلا به و لا يقول أسألك بملائكتك أو بأنبيائك أو نحو ذلك لأنه لا حق للمخلوق على خالقه )) .
ثم في صفحة 206 : (( الثامن : أن يسأل الله و يدعوه عند قبور الصالحين معتقداً أن الدعاء عند القبور مستجاب و نقل الحافظ أحمد بن عبد الحليم الحرّاني في المبسوط و هو من أشهر كتب المالكية الكبرى عن الإمام مالك رحمه الله كراهة التوسل بالمخلوق ، يعني بذوات الأنبياء و الصالحين و نقل ذلك في كتاب التوسل و الوسيلة له ، و أدعية الكتاب و السنة الصحيحة ليس فيها توسل إلا بأسماء الله الحسنى و صفاته و العمل الصالح ، ففيها غنية عن الأدعية المبتدعة التي تنحو منحى الشرك و
الوثنية )) .
توسل عمر بالعباس
قال السهسواني في ص 207 : (( المراد بالاستسقاء بالعباس و التوسل به الوارد في حديث أنس هو الاستسقاء بدعاء العباس على طريقة معهودة في الشرع و هي أن يخرج بمن يستسقي به إلى المصلى فيستسقي ، و يستقبل القبلة داعياً و يحول رداءه و يصلي ركعتين أو نحوه من هيئات الاستسقاء التي وردت في الصحاح ، و الدليل عليه قول عمر : (( اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا و إنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا )) ، ففي هذا القول دلالة واضحة على أن التوسل بالعباس كان مثل توسلهم بالنبي r و التوسل بالنبي r لم يكن إلا بأن يخرج النبي r و يستقبل القبلة و يحول رداءه و يصلي ركعتين أو نحوه من الهيئات الثابتة للاستسقاء ، و لم يرد في حديث ضعيف فضلاً عن الحسن أو الصحيح أن الناس طلبوا السقيا و الدعاء و الصلاة و غيرهما بغير ما ثبت بالأحاديث و من يدعي وروده فعليه
الإثبات .
إذا ثبت هذا فاعلم أن الاستسقاء و التوسل على الهيئات التي وردت في الصحاح للاستسقاء لا يمكن إلا بالحي لا بالميت ، فالقول بإمكان الاستسقاء بالنبي r من أبطل الأباطيل )) انتهى
المصدر : الحسام الماحق للشيخ تقي الدين الهلالي رحمه الله